الاثنين، 24 ديسمبر 2012

الرجل لذي أحب الصمت

                                                                                                               
                       
                                                                                                           إقريني ولد يسلم
إسمى …إسمى لا يهم كثيرا وإن كنتم مصرون عليه فسأخبركم به,إسمى المهدى وأنا طبيب أسنان فى عيادة خاصة وخريج كلية لطب الأسنان فى كييف أيام الإتحاد السوفيتي.
أتقن عملى بشكل لافت لكن عيبى الوحيد أنى لا أتكلم أبدا أثناء علاجى لمرضاى,ويلقبوننى فيما بينهم بالطبيب "طيب" لكثرة إستخدامى لهذه العبارة عندما يبدأ أحدهم فى شرح ما يعانيه,أقاطعه بحزم "طيب" ,ولأسكته ولأفهمه بالحسنى أنى عرفت مايعانيه,ليتيح لى وقتا للعمل…
لا أعلم على وجه الدقة متى بدأكرهى للثرثرة..فالبعودة إلى طفولتى لا أجد ما  يفسر لى كل هذا الكره أو البغض أحيانا,فهى طفولة عادية شبه سعيدة خالية من كل ما من شأنه أن يكدر صفوها.
نشأت فى إحدى مدن الوسط,حيث كان أبى عضوا محترما فى حزب الشعب إبان الستينيات,كان على قدر كبير من التعليم وأشتغل فى مجال الصحة فى وظيفة غير محددة وشبه غائبة الملامح مكلف بكل
شىء ومعفى من كل شيء فى الوقت ذاته,وظيفة أشبه ماتكون بوظيفة مكلف بمهمة فى إحدى الوزارات فى أيامناهذه,إلا أنه ساعتها كان حضوره فى أيٌٌ مناسبة من مناسبات المدينة ذات الطابع الجنائزى يضفى جوا من الرسمية والأبهة,وكأنه رئيس الجمهورية بجلالة قدره…
أقمت فى تلك المدينة حتى مرحلة الباكلوريا,طبعا تزعزت مكانته بعد إنقلاب 10يوليو1978وقدوم العسكر,لكنه كان قدأصبح شيخا فى خريف العمر وزاهد فى الحياة السياسية ولا يلقى بالا لتقلبات الزمن الذى أصبح نافرا من أهله,قدمت إلى العاصمة لأحضرلمسابقة بكلوريا الشعبة العلمية….
جئت إلى العاصمة منبهرابكل شيء,السيارات بكل أنواعها وخاصة السيارات الصغيرة ذات الألوان الزاهية ساعتها والتى عرفت فيمابعد أنها سيارات الأجرة,تأملتها كثيرًا لصغرحجمها مقارنة برباعيات االدفع التى تركتها فى مدينتنا البعيدة,تصورت أن بإمكانى أن أسبقها..
كان فاتح أكتوبر1987هو أول أيامى فى المدينة,أقمت مع "عمي" وهو رجل من الطرازالمنقرض قصيرالقامة ممتليء الجسم ويتمتع بوسامة باهته بفعل الزمن…ويبدو لى الآن سر ولعه الشديد بالتواريخ راجع إلى تأثير المهنة على معتقداته…,تابعت دراستى بجدية بادية للعيان وبإصراروإلتزام لم أفهم سرهما إلى الآن..,كنت أرسم هدفا واضحا فى ذهنى,أن أنجح بإمتياز وأن أحصل على منحة على حساب الدولة وأدرس الطب فى فرنسا ..وكان لى ما كنت أرسمه فى ذهنى مع فارقين بسيطين ,الإتحاد السوفيتى بدل فرنسا,طب الأسنان بدل الطب العام…
قضيت العطلة الصيفية مع أهلى فى مدينتنا البعيدة وجدت إحتفالات كبيرة فى إنتظارى تكريما لنجاحى وأهدى إليٌٌ ابي بقرة حلوبا يطلق عليها أسما بشريا وكأنها إحدى قريباته"أنويجية",أبديت له الكثير من الفرح والإمتنان مع يقينى بينى وبين نفسى أن آخر هم لى فى هذه الدنيا أن أملك بقرة,وقد كنت أرى البقر على الخصوص حيوانا أبله وعديم الذكاء مقارنة بالحيوانات الأليفة الأخرى…
ودعتهم فى منتصف سبتمبر ودخلت فى معركة طويلة مع الوزارة ومفوضية الشرطة وحاكم المقاطعة والحالة المدنية والمستشفى الوطنى ولائحة طويلة من الأوراق المدنية حتى خيل إليٌ أنى سأتأخر عن دراستى لطول الإجراءات وفساد الإدارة التى لا تولي أهمية للتعامل مع الطلاب…..وأخيرا أنجزت أوراقي.
وطارت طائرتى مساء الخميس29سبتمبر1988 متجهة إلى باريس لأقف 4ساعات فى مطار شارل ديجول ومن ثم أستغل طائرة أخرى لتوصلنى إلى وجهتى الأخيرة,كييف,وكان بإستقبالى كمراعبدووهوزنجى موريتانى طيب المعشر.
عندما خرجت من بوابة المطاررفقة صديقى الجديد كمرا الذى وصل قبلي إلى كييف بعشرة أيام,إكتشفت أن يديٌ اصبحتا متجمدتين بفعل برودة الجو الذى لم يدر بخلدى أنه سيكون على هذه الحالة من السوء..,وإضطررت أخيرا أن أفتح حقيبتى على الرصيف المقابل للمطار لأخرج معطفا دافئاكنت قد إشتريته من انواكشوط فى اللحظات الأخيرة قبل سفرى حيث نبهنى عمى على أن هذه الأرض باردة جدا,بل إنه وصفها لى وصفا تربويا أنها أشبه ب"ثلاجة كبيرة",قلت فى نفسى وما أدراك أنت الذى لم تزر إلا أكرا عاصمة غانا ذات المناخ الجهنمى…
أنجزت إجراءات التسجيل فى اليومين التاليين وبدأت أدرس اللغة العجيبة التى ستكون لغتى خلال السنوات الأربع….,والتى كانت فى إعتقادى لغة ثورية لايستطيع أحد أن يتعلمها على أصولها قبل أن يغضب أولا لكى تبدو مخارج الحروف سليمة…,حياة كانت خالية من اللهو تماما بإستثناء مسامرات نادرة مع تجمع بيني وبين طلاب من دويلات الإتحاد السوفيتي المسلمة والذين يعتبرون وجود عربيٌ وجهالوجه معجزة لكى يعلمهم قراءة الفاتحة وسورتين معها ويحدثم عن مكة ويوم الحشر…..
أبديت لهم موافقة مبدئية لسهولة مطلبهم وقد إعتبرونى صديقاوشيخا قبل أى شيءآخرفى سرهم.
كان نظام وزارة التعليم   آنذاك أن تعطى للطالب تذكرة سفر عاما وتحجبهاالعام الموالى ولهذابقيت عامى الأول فى كييف أكتشف معالمها,وقرأت عنها القليل مستمتعا بعودة خجولة للشمس ,تظهرلمدة ساعة ثم تختفى خلف السحب الزرقاء…
تأخرت منحتى بفعل بعدنا عن موسكووأخيرا قرر كمراأن يذهب إلى العاصمة ليذٌكر المحاسب أن هناك طالبين ينتظران منحتيهما وقد عاد مظفرا….
أنهيت العامين الأولين بتفوق …رغم صعوبة اللغة وعدت إلى أهلى فى العام الموالى وكان والدى قد بدأ يتخبط فى هلام الشيخوخة اللامرئي…,فيسأل أسئلة لا تخطر ببال أحد..تارة عن كبولانى وأخرى عن هياكل تهذيب الجماهير…وأصبحت أخاف على أمى أن يسحرها بعالمه الخاص.
رجعت إلى كييف قبل موعد الدراسة وإستقبلنى كمرا بالأحضان كدب الكوالا المولع بالعناق…وبدأالعام الجديد وكنت أتمنى فى سري  أن أنهى العامين المتبقين فى شهرين وأن أزاول مهنى…,بدأت أولى بوادرمشكلتى مع الكلام فى منتصف العام الثالث,فقدكنت أفضل البقاء فى غرفتى فى الطابق الثالث من المبنى المخصص للطلاب الاجانب على أن أثرثررمع الطلاب الآخرين الذين أراهم غير آبهين بالوقت…,يطلقون كلماتهم كرصاصات بلا هدف معين…,أدركت إختلافى عنهم على الأقل وأرجعت هذا الإختلاف إلى ثقافتنا المختلفة والمتناقضة أحيانا…ومن سوء طالعى أن الشخص الوحيد الذى يقاسمنى الإنتماء وهوبطبيعته ثرثارمن الطرازالأول ويسخر أحيانا من صمتى وكرهى للكلام ويؤكد دائما على مبدأ فلسفته فى التواصل وأن الحديث هوجوهر هذا التواصل.
تخرجت فى صيف عام1992وكان عاما متميزٌافى كييف,ففى هذا العام كان الإتحاد السوفيتى قد لفظ أنفاسه منذ عام تقريبا وتحولت الجمهوريات التى كانت تكون الإتحاد السوفيتى إلى دويلات مستقلة تحكم نفسها بنفسها أو يخيل إليها.
بالنسبة لى الآن المتخرج حديثا كانت البلاد بدأت تنهج المسار الديمقراطى والأحزاب تتكون وكل شيء يتحرك على إيقاع السياسة.
كل هذا لايهم,المهم أنى بدأت العمل بعد إستراحة محارب قصيرة حيث أمضيت عند أهلى أسبوعين توفي خلالهما والدى إثر مرض مفاجيء ألٌٌم به ولم يشخص بعد…و
عدت إلى العاصمة وبدأت العمل فى مستشفى السبخة وهى مقاطعة فى الجنوب الغربى من  أنواكشوط أكثرية سكانها يعانون إلتهابات فى اللثة لم أعرف لها سببا…ومما زاد من حنقى أن أغلبية المرضى الذين يفدون إلى المستشفى للإستشارة لا يطبقون أفواههم أبدا,يتجمعون فى الممرات الضيقة بدراريعهم الرمادية ويبدأون فى محادثات ماروتونية لا تنتهى أبدا,فتتحمس النسوة القلائل ويدخلن معهم فى حوارات إحتفالية إلى أن أكاد أفقد توازنى ثم يخف الوضع قليلا وهكذا…
بعد عام بدأ مستواي المادى يتحسن كثيرا وأصبح ينظر إليٌ كمشروع يمكن الإستثمار فيه بالزواج.
تعرفت إلى هدى التى بدت لى منذ الوهلة الأولى بمثابة هدية من السماء,صاحبة عينين نجلاوين وفم جميل يزداد إغراء عندما يبتسم عن أسنان بيضاء نلاحظها نحن اطباء الأسنان بعيون طبيب قبل أى شيء آخر…لكن مالم أضعه فى الحسبان أبدًاأن يكون هذا الملاك الجميل والوديع لدرجة الشفقة قد تخصص فى القانون الخاص وبالتحديد قانون الأعمال وهى محامية متدربة لدى المحامى الشهيرعبد القادر ولد سيدن صاحب القضايا المثيرة,إذن فهى ثرثارة لا يشق لها غبار لأن مهنتها تحتاج إلى الثرثرة قبل أى شيء آخر…,تغاضيت عن موضوع المهنة راجيا أن ينسيها أول حمل مفاتن قاعات المحاكم وثياب المحامين التى طالما تراءت لى وكأنها قد أعدت للغربان لتتزين بها فى الأعياد,
بعد أيام قليلة على زواجنا أصبحت كثيرة السهر صحبة كتب سميكة الأحجام وهى تشبه دليل الطبيب الذى يضعه الأطباء على مكاتبهم للتباهى أكثر من أى شيء آخر,والذى تبدو أسطره وكأنها كتبت بتلك الطريقة لكى لا تقرأ…
وعندما أسألها عن سر هذه السهرة الرومانسية تجيبنى دون أن ترفع نظرها عن الأوراق"أعد مذكرة دفاع مهمة عن شركة الكهرباء فى نزاعها مع التجار…
أعود إلى سريرى ساخطا على كل شيء وكارها لكل شيء حتى نفسى,وأنام بفعل الغم قبل النعاس…,بعدشهرين أصبحت كثيرة التعليقات وتقيس كل شيء بالمنطق والعقل حتى أنها خاطبت الخادمة التى تعمل عندنا فى البيت بعد أن كسرت المسكينة كأسا وقع منها سهوًا,
ـ هل تعلمين أن هناك شيء فى القانون يسمى المسؤولية التقصيرية ومن خلالها يمكن أن اطالبك أن تعوضى عن هذا الضرر الذى ألحقته بالكأس…!
قلت لها وقد إستشطت غضبا"عن أى مسؤولية تتحدثين,إن هذه المسكينة لا تقرأ ولا تكتب ولا تعلم أن هناك علما يسمى القانون ولا مهنة تسمى المحاماة وأنت تنظرٌٌين عن المسؤولية التقصيرية,وخرجت وصفعت الباب خلفى….
بعدها بيومين سألتنى إن كنت مازلت غاضبا عليها,قلت لها بطريقة ساخرة بأنى لا أستطيع أن أغضب أكثر من يوم لشدة حبى لها.
بعد ذلك بايام مازحتنى قائلة:
"بعد سنوات سيختفى طب الأسنان لأن الناس سيبلغون من الوعى ما يجعلهم يهتمون بأسنانهم وبالتالى لن يلجئوا إلى خدماتكم ….!
أجبتها بنفس الطريقة"وكذلك سيبلغون نفس الوعى القانونى ويتجنبوا إرتكاب الأخطاء…,ويبقى المحامون يثرثرون بينهم فى قاعات المحاكم….!
أحست بأن الرد كان أقسى من المتوقع وإنصرفت…,كنت قد حسمت أمرها مسبقا قبل ذلك الحوار السخيف…,جلست معها وقلت بالطريقة نفسها التى أُبلغ بها أحد مرضاي بأنى قد قررت نزع جميع أضراسه حفاظا على بقية الأسنان من التسوس…أنت طالق.
إفتتحت عيادتى الخاصة….
وتزوجت بعدها بإسبوعين مع الخادمة "آمى" وسط دهشة الجميع بمافيهم صديقى كمرا الذى كان قد تحمس لفكرة زيارته فى عيادته النفسية وجرت مراسم الزواج دون ثرثرة تذكر….!

ليست هناك تعليقات:

أوجفت وأطار في عمق التراث الإنساني

أوجفت وأطار في عمق التراث الإنساني د. دداه محمد الأمين الهادي دأبت موريتانيا على تنظيم مهرجانات سنوية باسم المدن الأثرية، و...