السبت، 15 سبتمبر 2012

البعد الأدبي للشاي الموريتاني


البعد الأدبي للشاي الموريتاني


لكل أمة خصوصيتها الثقافية والحضارية ورئتها التي تتنفس منها عبق الأصالة والهوية، ولكل شعب مخزونه المليء بمكوناته الذاتية التي تحدد ملامح شخصيته، وقد عرف علماء الاجتماعي المظاهر الثقافية بأنها أنماط الحياة المختلفة من نحلة المعاش والسكن وأنواع الأطعمة واللباس ويأتي الفلكلور الشعبي في المقدمة والممتثل في الموسيقى والرقص والفنون الأدبية وأغراضها المتعلقة بذاتية المجتمع الذي ابتكرها والمترجمة لحاجياته والمخاطبة لضميره الجمعي، هذا باختصار شديد ومتواضع جدا مدخل بسيط لمحاولة فك الرمزية الأدبية لغرض شعري ضخم يحاول المنافسة لغرضي البكاء على الأطلال والغزل مثل ما يقول أحد الشعراء:

لولا الاتاي ولولا البيض والعيس
لما وجد بين الإنس تأنيس
وقد يزيد هذا الغرض على الأغراض الأخرى بخاصيتي الطرافة والخفة مع ما يحمل من دلالة تارخية واقتصادية وتمايز اجتماعي وأبعاد نفسية يعالجها بطريقة خاصة أستحدثها الشناقة إبان نهضتهم الأدبية، إن هذا الغرض يتمثل في الشاي الموريتاني الأصيل الذي لم تستطع  العولمة تغير نمطه ولم تكدر صفوه دلاء التمدن وظل يتربع على سلطة ذوقنا الجمعي منذ ما يناهز قرنين من الزمن بثلاثيته التي تضفي عليه رونقا وتكسوه عذوبة مما يجعله مدر إلهام الشعراء ومقصد من مقاصد الطرب والنشوة تلك الثلاثية المتمثلة في تعانق الجيمات الثالثة آلا وهي : "أجمر اجر أجماعة" وهكذا ظلت هذه العناصر الثلاثة تواكب جماليته من الخيمة إلى الصالون الراقي جدا وحتى المكتب وفي الشارع وفي الأسواق رغم اختفاء أحد العناصر رويدا ألا وهو جمر الغضاء وفي خطواته الأولى للاختفاء عنصر الجر أي التأني والبطء ومع ذلك كله فإن الشاي عندنا ما زال ذو أهمية قصوى مع أن كثرته ساهمت بشكل لا إرادي في اختفاء مكامن الجمال التي هي مصدر إلهام الشعراء المبدعين والتي خلقت ثقافة خاصة به ومصطلحات ودلالات تحمل ثقافة ما هي إلا جزء من الثقافة الصحراوية البسيطة الخيمة المفتوحة واجتماعية المظاهر والمستحدثات مثل (السكاك) وهي جماعة الشاي التي تتكعكع حوله وتتموقع قرب الكؤوس مما يحتم عليهم موقفهم بعضا من التودد لقيام أتاي وخلق جو من النكت بمثابة تأشيرة دخول اجماعت أتاي، ومع أننا لم نخض في جوانبه المختلفة والغنية جدا مثل الفتاوى الفقهية والمراسلات بين الفقهاء في حرمته وإباحته، وقد غضضنا الطرف كذلك عن بعده التاريخي رغم ما لذلك من أهمية لأن الغرض من كتابة هذه السطور ما هو إلا إبراز الجمالية الأدبية له كغرض مستحدث عرفه الشناقطة منذ ستينات القرن الثامن عشر ميلادي عندما رست على سواحلنا السفن الهولندية والبرتقالية والفرنسية تروج لتجارة الأقمشة والأقفال والعطور والشاي الصيني الأخضر ذو النكهة الخاصة، وقد ظل زمنا محتكرا على الأمراء ومجالسهم مما خلق عند المحرومين نوعا من أدب الحرمان، وقد لجأ بعض المتعلقين به إلى استخدام الصمغ العربي وكذلك بعض الأعشاب نظرا لندرته، وأصبح للسكاك سلوك خاص وظلت المرأة مبعدة منه مثلما أبعدت عن أشياء أهم، وقد سمى به بعض الشعراء إلى أن جعله توأم العلم حيث قال:

فلا عيش يطيب بغير علم
فلولا الكـأس مـا شرحت  صدور

 وكأس في العظام لها دبيب
ولولا العلم ما عرف اللبيب
ولم يقتصر التشبب بالشاي على بسطاء الناس بل نرى باب ولد الشيخ سيديا يــــقـــــــــــول: 

يقيم لنا مولاي والليل مقمر
كؤوسا من الشاهي الشهي شهية
تخير من تجار طنجة شاهها

وأضواء مصباح الزجاجة تزهر
يطيب بها ليل التمام ويقصر
وخير لها من ثلج وهران السكر
 رغم الدلالة التاريخية العميقة لهذه الأبيات المتمثلة في هذه المدن المغاربية والتي ظلت شرايين تنساب عبرها القوافل المحملة بمختلف أنواع الزاد وما استجد من دين وتجارة إلا أن النكهة الأدبية العذبة قد طغت على التلميحات التاريخية البالغة الدلالة، وبما أن النكت والتلميحات والألغاز سيمة ميزت مجالس الشاي فإنني سأختم ببيتين من الشعر حملا حكما فقهيا استخدم بدلالة بلاغية تسمى التورية وذلك عندما قال أحد شعراءنا مخاطبا قيام أتاي طالبا منه زيادة كؤوس الشاي إلى أربعة بدل ثلاثة فــــقـــــال:

إذا دعاك لقصر الشاهك موجب
فالشرع إتيان المقيم بأربع

فاقصر  وإلا يا مقيم فأربع
والقصر دون مبيحه لم يشرع

ليست هناك تعليقات:

أوجفت وأطار في عمق التراث الإنساني

أوجفت وأطار في عمق التراث الإنساني د. دداه محمد الأمين الهادي دأبت موريتانيا على تنظيم مهرجانات سنوية باسم المدن الأثرية، و...